من منّا لا تسعده أوصاف وكلمات المدح المتناقلة؟ ملاطفاتٌ كلاميّة من هنا ومجاملات شكليّة من هناك، ولا أقصد خدش الحياء العامّ الذي تنطق به أفواه الشباب الأرعن من حولنا في الطرقات والشوارع، في الأماكن العامّة وصولاً إلى صميم المنشآت التعليميّة والتربوية. مضايقاتٌ وإحراج وقلّة أدب يتفنّن ويتغّنى الشبّان بإطلاقها على مسمع الفتيات لحظة خروجهنّ من أبواب المدارس. البعض يسمّيها محاولة تحرّش، والبعض الآخر يلطّف المصطلح قليلاً بتسميةٍ مقبولة ومتداولة تدعى “التلطيش أو المعاكسة”. بات ما نشهده اليوم من انخراط جماهيريّ للشباب في الرذائل والمشاحنات الكلامية والانحراف الأخلاقي بحجّة التفريغ والتنفيس عن كبت العواطف وبركان الهرمونات داخلهم، يلوح بخطر الانحدار والانحطاط غير المسبوق لمجتمعاتنا.
ظاهرة التلطيش تغزو مجتمعنا دون رقيب
مصطلح المعاكسة أو التلطيش هو تعبيرٌ ملطّف للتحرش اللفظي الذي يمتهنه ثلّة من شبابنا اليوم، متفاخرين بنسج عبارات الغزل المبتذلة وإطلاق نظراتهم المبطّنة على مرأى ومسمع طالباتٍ جلّ ما قمن به عبور أبوابٍ لها حُرماتها، والمرور بشوارع وأزقّة لا بديل عنها لمقصدهنّ. تتنوّع العبارات الملقاة بين المديح اللطيف وبعض الكلمات الطريفة الذكية، وقد تصل الى حدّ التلفّظ بكلمات نابية أو إطلاق إيماءات أو سلوكيات غير مقبولة.
معاكسة الطالبات قلّة أدب ووقاحة مستفحلة نحو الانحراف الأخلاقي
إذا كانت هناك أيّ قضية موضوعيّة متفشية ومهيمنة على رحلتنا الفكريّة اليوميّة، من ذلك النوع الذي تذهب إليه أغلب أحاديثنا الاحتداميّة التي تشعل موجات التريند على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بالتأكيد فهي مشكلة الانحراف الأخلاقي بين الشباب. على أرض الواقع، بدأت أزمة الأخلاق والمبادئ تتدرّج في اللدغات حتّى وصلت الآن إلى المستوى الذي يمكن وصفه على أفضل نحوٍ بمرض السرطان المستعصي على الاستئصال، إذ انتشرت مخالبه في أكثر المراحل العمريّة تأثّراً وحساسيّة لما يجري من حولها، بالتالي فإنّ أي عادة يتم اكتسابها في هذه المرحلة لها تأثير كبير على اهتمام الشخص وسلوكه المكتسب.
ما يظهره تناقض التفكير عند بعض شبابنا هو النفاق في إسقاط سلوكياتهم على الجنس الآخر، فلو سألت أيّ شابٍ من الشباب المتربّصه كدفّة للتوجيه و على أبواب المدارس تلبيةً لنداء واجب الذكورة وإثبات الذات، هل تحبّ أن تتعرّض أختك أو أيّ فتاة تجمعك بها صلة قربى لعبارات التلطيش وحركات المعاكسة التي تستمتع بإسقاطها على أجساد الطالبات دون مراعاة لحرمتهنّ أو حتّى أدنى اعتبار لمبادئ الاحترام والإنسانية؟. بالتأكيد لن يقبل عنفوانه المساس بما يخصّه. إذاً المبدأ الأساسي الذي يمكن أن ننطلق منه كإنذار للضمير الأخلاقي، ونبني عليالتوعية هو ببساطة “أَحِبب لأخيك ما تحبّه لنفسك”.
الأثر الذي تتركه المعاكسات على الفتيات
هل سمعت عن رجلٍ يمدح فتاةً لا يعرفها في الشارع لكونها خلوقةً أو ذكيّة أو لطيفة ؟. ما ترمي إليه أغلب عبارات التلطيش أو الغزل هو أجساد الفتيات وما ظهر منها من مفاتن خارجيّة تلاحقها أنظار الشباب مدفوعة بغريزتهم. حسناً قد تشعر الفتاة بنوعٍ من الإطراء الجميل، قد تبتسم داخلها إذا كانت المعاكسة لطيفةً خفيفة الوقع. لكن ماذا عن شخص متقنٍ للتلاعب العاطفي ومتمرّس بملاحقة أجيال من الطالبات، يلاطف إحداهنّ اليوم، ويشتمها غداً، ويتجاهلها بعد غد؟.
الأنثى بطبيعتها مخلوقٌ تحكمه العاطفة، فحتّى لو تجاهلت تلك العبارات المنمّقة والإيماءات الواضحة ستبقى تحت وطأة ثقلها أو خفّتها في دوّامة من مشاعر التهديد وعدم الأمان وضعف الثقة التي توهن شعور الفتاة بالاستحقاق، الأمر الذي سينعكس على تصوّرها للحياة وتطوّر مسارها التعليمي والاجتماعي بعد ذلك. بالطبع معاكسة الشباب للبنات ليست مقياساً للثقة ولا ميزاناً لمعايير الجمال، إذ يتوّجب على كلّ فتاة أن تمتلك الثقة الكافية بتكوينها وشخصيتها، وأن تكون على درايةٍ ووعي بأهميّة شقّ طريقها التعليميّ وبناء مستقبلها الذي يتوقّف عليها فقط.
مهما كان نوع المسمّى الذي يحاول البعض تجميله سيبقى انتهاكاً للفتاة كفعلٍ بغيض وغير أخلاقيّ. من حقّ كل فتاة أينما كانت في المدرسة أو العمل أو الشارع أن تضمن تواجدها في بيئة آمنةٍ ومحترمة تلغي مشاعر الخوف وعدم الأمان جرّاء التعرّض لآراء الآخرين فيها مهما كانت وجهة نظرهم.
موقف الأهل من سلوكيات أبنائهم
لا يمكننا أن نتجاهل دور الأهل في زرع بذرة التربية الأخلاقية الصالحة داخل أبنائهم منذ الصغر، لكن من الواضح أنّ بعض الآباء تناسوا دورهم التربوي أو تخلّوا عنه لحظة دخول أبنائهم إلى المدرسة، ملقين بكامل المسؤولية والأدوار على عاتق المدرسة والكادر التعليميّ. يتحدّث آباؤنا أمامنا في كلّ يوم عن الأيام الخوالي ونظريات الأخلاق التي تربّوا على تقديسها. إذاً لماذا بعض الآباء الذين حصلوا على مثل هذه التنشئة الجيّدة في الماضي هم ذاتهم اليوم وراء تنشئة جيلٍ يافع بعيدٍ عن كلّ المعايير والقيم المجتمعيّة السليمة؟.
هذه المفارقة الخطيرة يقع ضحيتها طلابنا وطالباتنا، فالآباء الذين تخلّوا عن مسؤوليتهم الأساسيّة في بناء منازلهم وعائلاتهم سعياً وراء الثروات والمتعة، قد طوّروا كل أنواع الأعذار لتبرير تقصيرهم في واجبهم تجاه أبنائهم، ليقع اللوم عليهم بتحمّل الإخفاقات المخزية والمقلقة حول تفشيّ مشاهد الانحراف الأخلاقي وعدم الانضباط المنتشر بين الأطفال والمراهقين في المجتمع.
مهمّة المدارس وأولياء الأمور مضاعفة أدوارهم
ما يجري في بعض المدارس من إلقاءٍ للتعليمات الدينيّة والأخلاقية في هباء الريح، أقوالٌ وشعارات دون أدنى تطبيق أو إحساس بالمسؤولية، يطرح تساؤلاً جوهرياً كيف يمكن لمجتمعٍ أن ينهض ويتقدّم من دون أساسٍ أخلاقيّ يرتكز عليه؟.يتعيّن على المدارس وأولياء الأمور استخدام سلطتهم المشرّعة لخدمة الاستثمار الأكثر ربحيّة الذي يمكن أن يمتلكه المجتمع المتمثّل بمحصول الانضباط الأخلاقي للفرد لضمان المستقبل وصون صمام الأمان في البلاد.
انطلاقاً من الأسرة التي كانت ومازالت حجر الأساس لبناء المجتمع، يتعيّن على الآباء تدريب وتثقيف أبنائهم منذ الطفولة من خلال زرع بذرة الضمير الأخلاقي السليم مع تثبيت مخافة الله في نفوسهم. كما يجب على الشباب من جانبهم أن يحاولوا قدر الإمكان استعادة حواسّهم والارتقاء بوعيهم لاسترداد الحكم الأخلاقي في أفعالهم وتصرّفات الآخرين من حولهم دون الانجرار إلى محاولات التقليد الأعمى.
يتمحور دور المدارس في التنشئة السليمة بتفعيل جانب التربية الأخلاقية النظريّة والعمليّة، لخلق بيئة مواتية للأطفال لزرع وتعلّم الفضائل والأخلاق الصحيحة والتخلّص من الرذائل والسلوكيات البغيضة في المجتمع، من خلال التوجيه والإرشاد المناسبين لرفع مستوى وعيهم بما يجري من حولهم.
توجب التنويه أيضاً إلى أهميّة إجراء مراقبة دقيقة لما يتعرّض له الطلبة من مواقف ومشاهد يوميّة لا يمكن ضمان حمايتهم من التأثّر بها. لذا من الضروري منع وتقييد تعرّض الشباب للمواد الإعلاميّة المضلّلة ومحاولات تقليد المشاهد اللاأخلاقية التي يشاهدونها في الأفلام والمسلسلات العربية والغربيّة على حدّ سواء. كذلك يجب ألاّ تغفل أعين الجهات المعنية عن حفظ النظام والانضباط الأخلاقي داخل أسوار المدارس وخارجها بتفعيل نظام المراقبة الأمنية ولجان الانضباط التي تتولّى مهمّة إنزال العقوبات والمخالفات بحقّ المتعدّين على سلامة وجودة العمليّة التعليميّة وعدم التهاون بالتعامل معهم تحت أيّ ذريعةٍ.
إنّ استقرار الشباب اليوم هو الهدف والمحور الأساسيّ لضمان أمن وسلامة مجتمعنا. إذ يجب على الهيئات التعليميّة والتربوية أن تنهض وتحاسب بلا تهاون أيّ ظاهرة من شأنها أن تعكّر صفو البيئة التعليميّة وتسيء لقدسيتها.